- فأما من حيث المستند القرآني، فيقول الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.. ويقول: {فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى}.. ويقول: {إن الأبرار لفى عليين}..
- وأما من حيث النص النبوي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: : (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه). رواه البيهقي، وحسنه الألباني لغيره في الإرواء 5/106-108.
- وأما من حيث كونه قاعدة شرعية: قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه". الفتح3/218 قال ابن عبد الهادي: " القاعدة الثلاثون: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه". مغني ذوي الأفهام 180
- وأما من حيث كونه حقيقة فطرية: فإن النفس الإنسانية لا تساوي بين العالي والسافل، والشريف والوضيع، والخير والشر، فإن من طبعها التفريق بينهما، وتفضيل العالي والشريف والخير على السافل والوضيع والشر، وتنفر غاية النفور من ترفع الأراذل وخفض الأفاضل، وترى العدل كل العدل أن ينـزل كل شيء منـزلته، وبما أنها خلقت مفطورة على عبادة ربها: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}، فهي لا تساوي قطعا بين عبادته، المتمثلة في الإسلام، وعبادة غيره، المتمثلة في سائر الديانات سوى الإسلام.
- وأما من حيث كونه برهانا عقليا: فالبرهان العقلي يوجب إعلاء الإسلام على غيره، فهو الدين الذي لا يرفع البشر فوق مرتبتهم، بل ينهى عن ذلك، ويأمر بعبادة الله وحده، وينهى عن عبادة غيره، وهو الدين الذي يساوي بين الناس، إذ كانوا من أب وأم واحد، ليس لهم اختيار في خلقتهم، ويعلق تفاضلهم على التقوى، الذي هو من اختيارهم و**بهم: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وهو الدين الذي يتنصر للضعيف من القوي، وللفقير من الغني، وينهى عن الفواحش والآثام، فيأمر بالفضيلة علما وعملا، وينهى عن الرذيلة حقيقة وواقعا، ويأمر بالعدل وينهى عن الظلم، فكل البراهين العقلية تشهد بعلو الإسلام على غيره.
* وإذا كان الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فإن هذا الحكم ينتشر إلى أتباعه من المسلمين، فهم يعلون ولا يعلى عليهم، كذلك قال الله تعالى: { وأنتم الأعلون}، ومن ثم فهذا الحكم والأصل له تطبيقات في حياة المسلمين باطنة وظاهرة: فأما التطبيقات الباطنة، فهو من مثل ما خاطب الله به المؤمنين في معركة أحد بقوله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين}.
فمهما أصاب المؤمنين من أعدائهم من ألم أو قرح فلا يحملهم على الوهن والضعف والتصاغر أمام عدوهم، مهما كان قويا، يملك أدوات السحق والمحق والمكر والخديعة والقتل، كلا، فالعالي يجب أن يبقى عاليا، والسافل يجب أن يبقى سافلا، ولو تسلط السافل على العالي، ولو انتصر عليه فسامه الألم والقرح، فإن هذا العدو يناله القرح والآلم أيضا، كما ينال المؤمنين، ويُهزم كما يَهزم، والأيام دول، لكن الفرق أن المؤمنين يرجون من الله ما لا يرجوا هؤلاء الكفار، وهم الأعلون دوما، قال تعالى: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون}.
إن ما يصيب المؤمنين على يد الكافرين من النكال إنما هو بقدر الله تعالى، ولو شاء لانتصر منهم، ولكن ليبلو العباد بعضهم ببعض، وقد جعل مثل هذا النكال والعدوان سببا لمعرفة المؤمن الصادق المخلص الصابر من المنافق الكاذب، فتسلط الكافرين على المؤمنين بقضاء الله وقدره، لم يكن لأجل هوان المؤمنين وإذلالهم، كلا، بل لأجل التمحيص، ومن ثم يجب على المؤمنين أن يفهموا ذلك، ولا ينسوا أنهم هم الأعلون، في كافة الظروف والأحوال، في حال النصر وفي حال الهزيمة. والآية: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون}، نزلت في معركة أحد، التي أصيب فيها المسلمون، فنالهم منهم المشركون، فكان أمرا من الله تعالى لعباده المؤمنين أن لا يذلوا للكافر، في أي ظرف كان.
إن من يجاهد ويقاتل لأجل مصلحة شخصية دنيوية، سيذل إذا سقط في يد عدوه، خشية فوات مصالحه، أما من كان همه نصرة دين الله تعالى، وهداية الناس، فلن يذل أبدا، لأنه لا موجب للذلة، فالحامل على الذلة الخوف على مصلحة دنيوية أن تذهب، والقاصد وجه الله تعالى ليس عنده شيء منها، وليس حريصا عليها، وهو على ثقة بالله تعالى أنه يملك كل شيء، ويقدر على كل شيء.
* وأما التطبيقات الظاهرة لهذا الأصل، فقد اهتم بها علماء الفقه والأصول، فذكروا منها: - منع أن يتولى الكافر على المسلم، أو يتزوج كافر مسلمة. - منع استرقاق الكافر المسلم. - منع مهادنة الكافرين على ما شاءوا، لما فيها تحكمهم في المسلمين، وفي ذلك علو لهم. - منع أهل الذمة من مساواة المسلمين في البناء أو العلو عليهم، ومنعهم من صدور المجالس. - منع الكفار من الدعوة إلى دينهم في بلاد المسلمين. - منع المساواة بين الإسلام واليهودية والنصرانية بدعوى: وحدة الأديان، زمالة الأديان. - إذا اختلف دين الأبوين، تبع الولد المسلم منهما. - لا يقتل مسلم بكافر. - الإسلام شرط في القاضي، ولا يصح قضاء غير المسلم. - لا تجوز مشاركة القاضي القانوني للقاضي الشرعي في الحكم. - إبطال التحاكم إلى القوانين الوضعية وتقديمها على الشريعة.
كل ذلك وغيره مما هو مثله، لأجل: أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. (انظر: قاعدة: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.. دراسة تأصيلية وتطبيقية، للدكتور عابد السفياني، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة عدد22 ربيع الأول 1422هـ).
* هذه القاعدة إنما هي بين المؤمنين والكافرين، أما المؤمنون فالعلاقة بينهم يقررها قوله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عند أبي داود (في الجهاد، باب: في السرية، صحيح أبي داود 2390): (المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مُشدهم مضعفهم، ومتسرعهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده). وهي تميز المؤمن عن الكافر، وتؤكد عزة المسلمين ورفعتهم، حتى ولو ضعفوا أو تأخروا، فمثل هذه الأصول الأصيلة، والمباديء القويمة، تحيي فيهم الكرامة والأنفة، وترجع إليهم القوة والمنعة، فلا يسلموا أمرهم لعدو، ولا يستكينوا لظالم.
وفي هذه المرحلة خاصة، على المسلمين أن يستذكروا جيدا ودائما هذا الأصل، الذي منّ الله به عليهم، ويعملوا على تنفيذ كل تطبيقاته قدر الطاقة، فمن الهوان أن يرضى المسلمون بالدون وقد كتب الله لهم العلو بالإيمان.. فرضاهم بالدون يكون: بالركون إلى الدنيا.. والعبث بملاهيها ومفاسدها.. والترف والراحة.. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً، لاينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أبو داود، صحيح الجامع 423.
نعم، هذا العلو وإن قدرا وأمرا إلهيا، إلا أنه لن يتحقق في الواقع إلا بالصبر والتضحيات، والعمل الجاد، والكف عن اللهو والفساد، ومعرفة ما الذي يجب على المؤمنين القيام به، قال تعالى: {ألر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد}. {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}.